فصل: فوائد لغوية وإعرابية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

.قال السمين:

سورة الحاقة:
{الْحاقّةُ (1)}
قوله: {الحاقة}: مبتدأٌ و(ما) مبتدأٌ ثانٍ، و{الحاقّةُ} خبرُه، والجملة خبرُ الأوِل، وقد تقدّم تحريرُ هذا في الواقعة. وهناك سؤالٌ حسنٌ وجوابٌ مثلُه فعليك باعتبارِه. و{الحاقّةُ} فيها وجهان، أحدهما: أنّه وصفٌ اسمُ فاعلٍ بمعنى: أنها تُبْدِي حقائق الأشياءِ. وقيل: لأنّ الأمر يحِقُّ فيها فهي من باب: ليلٌ نائمٌ ونهارٌ صائمٌ. وقيل: مِنْ حقّ الشيءُ: ثبت فهي ثابتةٌ كائنةٌ. وقيل: لأنها تحُقُّ كلّ مُحاقٍّ في دينِ اللّهِ، أي: تغْلِبُه. مِنْ حاققْتُه فحققْتُه أحُقُّه، أي: غلبْتُه. والثاني: أنها مصدرٌ كالعاقبةِ والعافيةِ.
{ما الْحاقّةُ (2)}
قوله: {ما الحاقة}: في موضعِ نصبٍ على إسقاطِ الخافض؛ لأنّ أدْرى بالهمزةِ، ويتعدّى لاثنينِ، الأولُ بنفسه. والثاني: بالباءِ، قال تعالى: {ولا أدْراكُمْ بِهِ} [يونس: 16] فلمّا وقعتْ جملة الاستفهامِ مُعلِّقة لها كانتْ في موضوع المفعولِ الثاني، ودون الهمزة تتعْدّى لواحدٍ بالباء نحو: دريْتُ بكذا، ويكون بمعنى علِم فيتعدّى لاثنين.
{فأمّا ثمُودُ فأُهْلِكُوا بِالطّاغِيةِ (5)}
قوله: {فأُهْلِكُواْ}: هذه قراءة العامّةِ. وقرأ زيدُ ابن علي {فهلكوا} مبنيا للفاعلِ مِنْ هلك ثلاثيا.
قوله: {بالطاغية}، أي: بالصيحةِ المتجاوزةِ للحدِّ. وقيل: بالفعْلةِ الطاغيةِ. وقيل: بالرجلِ الطاغيةِ، وهو عاقِرُ الناقةِ، والهاء للمبالغةِ، فالطاغيةُ على هذه الأوجه صفةٌ. وقيل: الطاغيةُ مصدرٌ ويُوضِّحُه {كذّبتْ ثمُودُ بِطغْواهآ} [الشمس: 11] والباءُ للسببيةِ على الأقوالِ كلِّها، إلاّ القول الأول فإنها للاستعانةِ ك (عمِلْتُ بالقدُوم).
{سخّرها عليْهِمْ سبْع ليالٍ وثمانِية أيّامٍ حُسُوما فترى الْقوْم فِيها صرْعى كأنّهُمْ أعْجازُ نخْلٍ خاوِيةٍ (7)}
قوله: {حُسُوما}: فيه أوجهٌ، أحدها: أنْ ينتصِب نعتا لِما قبلها. والثاني: أنْ ينتصِب على المصدرِ بفعلٍ مِنْ لفظِها، أي: تحْسِمْهم حُسوما. الثالث: أنْ ينتصِب على الحالِ، أي: ذات حُسوم. الرابع: أنْ يكون مفعولا له، ويتّضِحُ ذلك بقول الزمخشري: الحُسوم: لا يخْلو مِنْ أنْ يكون جمع حاسِم كشاهِد وشُهود، أو مصدرا كالشُّكور والكُفور. فإنْ كانتْ جمعا فمعنى قوله {حُسوما}: نحِسات حسمتْ كلّ خيرٍ، واستأصلتْ كلّ بركةٍ، أو متتابعة هبوب الريح، ما خفتتْ ساعة، تمثيلا لتتابُعِها بتتابُعِ فِعْلِ الحاسمِ في إعادة الكيِّ على الدّاء كرّة بعد أخرى حتى ينْحسِم. وإن كان مصدرا: فإمّا أنْ ينتصِب بفعلِه مضمرا، أي: تحْسِم حُسوما، بمعنى: تسْتأصِلُ استئصالا، أو يكونُ صفة كقول: ذات حُسومٍ، أو يكونُ مفعولا له، أي: سخّرها عليهم للاستئصالِ. وقال عبد العزيز بن زُرارة الكلابي:
ففرّق بين بيْنِهُمُ زمانٌ ** تتابع فيه أعوامٌ حُسومُ

انتهى. قال المبرد: الحُسوم: الفصْلُ حسمْتُ الشيء من الشيء فصلْتُه منه ومنه الحُسام. وقال الشاعر:
فأرسلْت ريحا دبُورا عقيما ** فدارتْ عليهمْ فكانتْ حُسُوما

وقال الليث: هي الشُّؤْمُ: يقال: هذه ليالي الحُسومِ، أي: تحْسِم الخير عن أهلِها. وعندي أنّ هذين القوليْن يرْجِعان إلى القول الأول؛ لأنّ الفصل قطْعٌ، وكذلك الشُّؤْمُ لأنّه يقطعُ الخير. والجملة مِنْ قوله {سخّرها} يجوزُ أنْ تكون صفة ل {ريح}، وأنْ تكون حالا منها لتخصُّصها بالصفةِ، أو من الضميرِ في {عاتية}، وأنْ تكون مستأنفة.
قوله: {فِيها صرعى} صرْعى حالٌ، جمعُ صريع نحو: قتيل وقتْلى، وجريح وجرْحى، والضمير في {فيها} للأيام والليالي، أو للبيوت، أو للرِيح، أظهرُها الأولُ لقُرْبِه، ولأنّه مذكورٌ.
وقوله: {كأنّهُمْ أعْجازُ نخْلٍ} حالٌ من القوم، أو مستأنفةٌ. وقرأ أبو نهيك {أعْجُزُ} على أفْعُل نحو: ضبُع وأضْبُع. وقرئ {نخيل} حكاه الأخفشُ، وقد تقدّم أنّ اسم الجنس يُذكّرُ ويؤنّثُ، واختير هنا تأنيثهُ للفواصلِ، كما اخْتِير تذكيرُه لها في سورةِ القمر كما تقدّم التنبيهُ عليه.
{فهلْ ترى لهُمْ مِنْ باقِيةٍ (8)}
قوله: {فهلْ ترى}: أدغم اللام في التاءِ أبو عمروٍ وحده، وتقدم في الملك. و{مِنْ باقية} مفعولُه و(من) مزيدةٌ، والتاءُ في {باقية} قيل: للمبالغةِ، أي: مِنْ باقٍ، والأحسنُ أنْ تكون صفة لفرقةٍ أو طائفة ونحو ذلك.
{وجاء فِرْعوْنُ ومنْ قبْلهُ والْمُؤْتفِكاتُ بِالْخاطِئةِ (9)}
قوله: {ومن قبْلهُ}: قرأ بكسر القاف وفتح الباء أبو عمروٍ والكسائي، أي: ومنْ هو في جهتِه، ويؤيِّدُه قراءة أبي موسى و{منْ تِلْقاءه} وقرأه أُبيٌّ {ومنْ تبعه}، والباقون بالفتحِ والسكونِ على أنّه ظرفٌ، أي: ومنْ تقدّمه.
قوله: {بِالْخاطِئةِ} إمّا أنْ يكون صفة، أي: بالفعْلةِ أو الفعلات الخاطئة، وإمّا أن يكون مصدرا كالخطأ فيكون كالعافية والكاذبة.
{إِنّا لمّا طغى الْماءُ حملْناكُمْ فِي الْجارِيةِ (11)}
قوله: {فِي الجارية}: غلب استعمالُ {الجارية} في السفينة كقوله:
تِسْعُون جارية في بطنِ جاريةٍ

هو من الألغاز، قال تعالى: {ومِنْ آياتِهِ الجوار} [الشورى: 32].
{لِنجْعلها لكُمْ تذْكِرة وتعِيها أُذُنٌ واعِيةٌ (12)}
قوله: {وتعِيهآ}: العامّة على كسرِ العينِ وتخفيفِ الياءِ، وهو مضارعٌ وعى منصوبٌ عطفا على {لِنجْعلها}. وابن مصرف وأبو عمروٍ في رواية هارون عنه وقنبل بإسكانها تشبيها له ب (رحْم) و(شهْد)، وإنْ لم يكُنْ منه، ولكنْ صار في اللفظِ بمنزلة فعِل الحلقيِّ العينِ. ورُوِي عن حمزة إخفاءُ الكسرةِ. ورُوِي عن عاصمٍ وحمزة أيضا تشديدُ الياءِ. وهو غلطٌ عليها، وإنما سمِعهما الراوي يُبيِّنان حركة الياءِ فظنّها شدّة. وقيل: أجْريا الوصل مُجْرى الوقفِ فضعّفا الحرف وهذا لا ينبغي أنْ يُلْتفت إليه. ورُوِي عن حمزة أيضا وموسى بن عبد الله العبسيِّ {وتعِيْها} بسكونِ الياءِ، وفيها وجهان: الاستئنافُ والعطف على المنصوبِ، وإنما سكّنا الياء استثقالا للحركةِ على حرفِ العلةِ كقراءة {تُطْعِمُون أهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] وقد مرّ.
{فإِذا نُفِخ فِي الصُّورِ نفْخةٌ واحِدةٌ (13)}
قوله: {واحِدةٌ}: تأكيدٌ ونفْخةٌ مصدرٌ قام مقام الفاعلِ. وقال ابن عطية: لمّا نُعِت صحّ رفْعُهُ. انتهى. ولو لم يُنْعت لصحّ رفعُه لأنه مصدرٌ مختصٌ لدلالتِه على الوحْدة، والممنوعُ عند البصريين إنما هو إقامةُ المبهمِ نحو: ضُرِب ضرْبٌ. والعامّةُ على الرفعِ فيهما، وقرأ أبو السّمّال بنصبِهما كأنه أقام الجارّ مُقام الفاعلِ، فترك المصدر على أصله، ولم يؤنِّثِ الفعل وهو {نُفخ} لأنّ التأنيث مجازيٌ، وحسّنه الفصْلُ.
{وحُمِلتِ الْأرْضُ والْجِبالُ فدُكّتا دكّة واحِدة (14)}
قوله {وحُمِلتِ الأرض}: قرأه العامّةُ بتخفيف الميمِ، أي: وحملتْها الريحُ أو الملائكةُ أو القُدرة ثم بُني. وقرأ ابنُ عامرٍ في روايةٍ والأعمش وابن أبي عبلة وابن مقسم بتشدِيدِها، فجاز أنْ يكون التشديدُ للتكثير، فلم يُكْسِبِ الفعل مفعولا آخر، وجاز أنْ يكون للتعدية، فيُكْسِبه مفعولا آخر، فيُحْتمل أنْ يكون الثاني محذوفا، والأولُ هو القائمُ مقام الفاعلِ تقديرُه: وحُمِّلتِ الأرضُ والجبالُ ريحا تُفتِّتُها؛ لقوله {فقُلْ ينسِفُها ربِّي نسْفا} [طه: 105]. وقيل: التقدير حُمِّلتا ملائكة. ويُحْتمل أنْ يكون الأولُ هو المحذوف، والثاني هو القائمُ مقام الفاعلِ.
قوله: {فدُكّتا}: أي: الأرضُ والجبالُ؛ لأنّ المراد الشيئان المتقدِّمان كقوله: {وإِن طآئِفتانِ مِن المؤمنين اقتتلوا} [الحجرات: 9].
فيوْمئِذٍ وقعتِ الْواقِعةُ (15)
قوله: {فيوْمئِذٍ}: منصوبٌ ب {وقعتْ}. و{وقعتِ الواقعةُ} لابد فيه مِنْ تأويلٍ: وهو أنْ تكون {الواقعةُ} صارتْ علما بالغلبة على القيامة أو الواقعةِ العظيمة، وإلاّ ف (قام القائم) لا يجوزُ؛ إذ لا فائدة فيه، وتقدّم هذا في قوله {إِذا وقعتِ الواقعة} [الواقعة: 1]. والتنوين في {يومئذٍ} للعوضِ مِنْ الجملة، تقديره: يوم إذ نُفِخ في الصُّور.
{والْملكُ على أرْجائِها ويحْمِلُ عرْش ربِّك فوْقهُمْ يوْمئِذٍ ثمانِيةٌ (17)}
قوله: {على أرْجآئِهآ}: خبرُ المبتدأ. والضميرُ للسماء. وقيل: للأرض. قال الزمخشري: فإنْ قلت: ما الفرقُ بين قوله {والملكُ} وبين أنْ يقال: والملائكة؟ قلت: الملكُ أعمُّ مِنْ الملائكةِ؛ ألا ترى أنّ قولك (ما مِنْ ملكٍ إلاّ وهو شاهِدٌ) أعمُّ من قولك: (ما مِنْ ملائكة) انتهى. قال الشيخ: ولا يظْهر أنّ الملك أعمُّ مِنْ الملائكةِ؛ لأنّ المفرد المحلّى بالألف واللام الجنسية قُصاره أنْ يكون مُرادا به الجمعُ المُحلّى بهما ولذلك صحّ الاستثناءُ منه، فقصاراه أن يكون كالجمعِ المُحلّى بهما، وأمّا دعْواه أنه أعمُّ منه بقوله: (ألا ترى إلى آخره) فليس دليلا على دعْواه؛ لأنّ (مِنْ ملكٍ) نكرةٌ مفردةٌ في سياقِ النفيِ قد دخلتْ عليها (من) المُخلِّصةُ للاستغراق. فشملتْ كلّ ملكٍ، فاندرج تحتها الجمعُ لوجود الفردِ فيه، فانتفى كلُّ فردٍ بخلافِ (مِنْ ملائكة) فإنّ (من) دخلتْ على جمع مُنكّرٍ، فعمّ في كلِّ جمعٍ جمعٍ من الملائكة، ولا يلزمُ مِنْ ذلك انتفاءُ كلِّ فردٍ منْ الملائكة. لو قلت: (ما في الدارِ مِنْ رجال) جاز أنْ يكون فيها واحدٌ؛ لأنّ النفي إنما انسحب على جمعٍ، ولا يلْزمُ مِنْ انتفاءِ الجمعِ أنْ ينتفي المفرد، والملكُ في الآية ليس في سياقِ نفيٍ دخلتْ عليه (من) وإنما جيء به مفردا لأنه أخفُّ، ولأنّ قوله {على أرْجائِها} يدُلُّ على الجمْعِ؛ لأنّ الواحد بما هو واحدٌ لا يمكنُ أنْ يكون {على أرجائها} في وقتٍ واحدٍ، بل في أوقاتٍ. والمرادُ واللّهُ أعلمُ أنّ الملائكة على أرجائها، لا أنه ملكٌ واحدٌ ينتقِلُ على أرجائها في أوقات.
قلت: الزمخشريُّ منْزعُه في هذا ما قدّمْتُه عنه في أواخرِ سورةِ البقرة عند قوله {وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ} فليُراجعْ ثمة. وأمّا قول الشيخ: ما في الدار مِنْ رجال، إنّ النفي منسحِبٌ على رُتبِ الجمعِ. ففيه خلافٌ للناسِ ونظرٌ. والتحقيقُ ما ذكره. والضمير في {فوقهم} يجوزُ أنْ يعود على الملك؛ لأنه بمعنى الجمع كما تقدّم، وأنْ يعود على الحامِلين الثمانيةِ. وقيل: يعود على جمع العالمِ، أي: إن الملائكة تحملُ عرْش اللّهِ تعالى فوق العالمِ كلِّه.
قوله: {ثمانيةٌ} أبْهم اللهُ تعالى هذا العدد، فلم يذْكُرْ له تمييزا فقيل: تقديرُه ثمانية أشخاصٍ. وقيل: ثمانيةُ صُنوفٍ.
{يوْمئِذٍ تُعْرضُون لا تخْفى مِنْكُمْ خافِيةٌ (18)}
قوله: {يوْمئِذٍ تُعْرضُون}: {تُعْرضُون} هو جوابُ {إذا} مِنْ قوله {فإذا نُفِخ}، قاله الشيخ. وفيه نظرٌ، بل جوابُها ما تقدّم مِنْ قوله {وقعتِ الواقعة} و{تُعْرضُون} على هذا مستأنفٌ.
قوله: {لا تخفى} قرأ الأخوان بالياءِ مِنْ تحتُ؛ لأن التأنيث مجازيٌّ، وللفصل أيضا، وهما على أصلِهما في إمالةِ الألفِ. والباقون {لا تخْفى} بالتاءِ مِنْ فوقُ للتأنيثِ اللفظيِّ، والفتحُ وهو الأصلُ.
قوله: {واهِيةٌ}، أي: ضعيفة. يقال: وهى الشيءُ يهِي وهْيا، أي: ضعُف ووهى السِّقاءُ: انخرق. قال:
خلِّ سبيل منْ وهى سِقاؤُهُ ** ومنْ هُرِيْق بالفلاةِ ماؤُه

وقوله: {أرْجآئِهآ}، أي: جوانُبها ونواحيها. واحِدُها: رجا بالقصر، يُكتب الألف عكس رمى، لقولهم رجوان قال:
فلا يُرْمى بِي الرّجوانِ أني ** أقلُّ القومِ، منْ يُغْني مكاني

وقال الآخر:
كأنْ لم تريْ قبلي أسيرا مُقيدّا ** ولا رجلا يُرْمى به الرّجوانِ

{فأمّا منْ أُوتِي كِتابهُ بِيمِينِهِ فيقول هاؤُمُ اقْرءُوا كِتابِيهْ (19)}
قوله: {هآؤُمُ}: أي: خُذُوا. وفيها لغاتٌ، وذلك أنّها تكونُ فِعْلا صريحا، وتكونُ اسم فعلٍ، ومعناها في الحاليْنِ خُذْ. فإن كانتْ اسم فعلٍ وهي المذكورةُ في الآيةِ الكريمةِ ففيها لغتان: المدُّ والقصْرُ تقول: ها درهما يا زيدُ، وهاء درهما. ويكونان كذلك في الأحوالِ كلِّها مِنْ إفرادٍ وتثنيةٍ وجمعٍ وتذكيرٍ وتأنيثٍ، وتتصلُ بهما كافُ الخطابِ اتصالها باسمِ الإِشارةِ، فتُطابِقُ مخاطبك بحسب الواقع، مطابقتها وهي ضميرُهُ، نحو: هاك هاءك، هاكِ هاءكِ إلى آخرِه، وتخْلُفُ كاف الخطابِ همزةُ (هاء) مُصرّفة تصرُّف كافِ الخطابِ، فتقول: هاء يا زيدُ، وهاءِ يا هندُ، هاؤُما، هاؤُم، هاؤُنّ، وهي لغةُ القرآن.
وإذا كانت فِعْلا صريحا لاتصالِ الضمائر البارزةِ المرفوعةِ بها كان فيها ثلاثُ لغاتٍ، إحداها: أنْ تكون مثل: عاطى يُعاطي. فيُقال: هاءِ يا زيدُ، هائِي يا هندُ، هائِيا يا زيدان، أو يا هندان، هاؤُوا يا زيدون، هائِيْن يا هنداتُ. الثانية: أنْ تكون مثل (هبْ) فتقول: هأْ، هئِي، هآ، هؤُوا، هأْن. مثل: هبْ، هبِي، هبا، هبُوا، هبْن.
الثالثة: أنْ يكون مثل: خفْ أمرا مِن الخوفِ فيقال: هأْ، هائي، هاءا، هاؤوا، هأْن، مثل: خفْ، خافِي، خافا، خافُوا، خفْن.
واختُلِف في مدْلولِها: فالمشهورُ أنّها بمعنى خُذوا. وقيل: معناها تعالوا، فيتعدّى ب (إلى). وقيل: هي كلمةٌ وُضِعتْ لإِجابةِ الداعي عند الفرحِ والنشاطِ. وفي الحديث: «أنه ناداه أعرابيٌّ بصوتٍ عالٍ، فجاوبه النبيُّ صلى الله عليه وسلم: هاؤُم بصوْلةِ صوْتِه» ومِنْ كوْنِها بمعنى (خُذْ) الحديث في الرِّبا: «إلاّ هاء وهاء» أي: يقول كلُّ واحدٍ من المتبايعيْن. خذ. وقيل معناها اقصِدوا. وزعم هؤلاء أنها مركبةٌ مِنْ ها التنبيه وأمُوا من الأمِّ، وهو القصْدُ فصيّره التخفيفُ والاستعمالُ إلى هاؤم. وقيل الميم ضميرُ جماعةِ الذكورِ. وزعم القُتبيُّ أنّ الهمزة بدلٌ من الكافِ، فإنْ عنى أنّها تحُلُّ محلّها فصحيحٌ. وإنْ عنى البدل الصناعيّ فليس بصحيح.
وقوله: {هآؤُمُ} يطلبُ مفعولا يتعدّى إليه بنفسِه، إنْ كان بمعنى خُذْ أو اقْصِدْ، وب (إلى) إنْ كان بمعنى تعالوا. و{اقْرؤُوا} يطْلُبُه أيضا فقد تنازعا في {كتابِيهْ} وأعمل الثاني للحذْفِ من الأولِ. وقد تقدّم تحقيقُ هذا في سورة الكهفِ وفي غيرِها. والهاءُ في {كتابِيهْ} و{حِسابِيهْ} و{سُلْطانِيهْ} و{مالِيهْ} للسّكْت، وكان حقُّها أنْ تُحْذف وصْلا، وتثْبُت وقْفا، وإنما أُجْرِي الوصْلُ مُجْرى الوقفِ، أو وُصِل بنيّة الوقفِ في {كتابِيهْ} و{حِسابِيهْ} اتفاقا فأثْبت الهاء، وكذلك في {مالِيه} و{سُلْطانِيهْ}، و{ما هِيهْ} في {القارعة} [القارعة: 10] عند القراء كلِّهم إلاّ حمزة رحمه الله فإنه حذف الهاء مِنْ هذه الكلِمِ الثلاثِ وصْلا وأثْبتها وقفا؛ لأنّها في الوقفِ يُحْتاج إليها لتحصينِ حركةِ الموقوفِ عليه، وفي الوصلِ يُسْتغْنى عنها.
فإنْ قيل: فلِم لمْ يفْعلْ ذلك في {كِتابِيهْ} و{حسابِيهْ} فالجوابُ: أنه جمْعٌ بني اللغتين، هذا في القراءاتِ السبعِ. وقرأ ابنُ محيصن بحذْفِها في الكلِم كلِّها وصْلا ووقْفا، إلاّ في (القارعة)، فإنه لم يتحقّقْ عنه فيها نقْلٌ. وقرأ الأعمشُ وابنُ أبي إسحاق بحذْفِها فيهنّ وصْلا، وإثباتِها وقْفا. وابن محيصن يُسكِّنُ الياء في الكلِمِ المذكورةِ وصْلا. والحقُّ أنها قراءة صحيحةٌ أعني ثبوت هاءِ السكتِ وصْلا، لثبوتِها في خطِّ المصحفِ الكريمِ، فلا يُلْتفتُ إلى قول الزهراوي: إنّ إثباتها في الوصلِ لحْنٌ، لا أعلمُ أحدا يُجيزه. وقد تقدّم الكلامُ على هاءِ السكتِ في البقرة. والأنعام بأشبع مِنْ هذا فعليك باعتبارِه.
{فهُو فِي عِيشةٍ راضِيةٍ (21)}
قوله: {رّاضِيةٍ}: فيها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه على المجازِ، جُعِلتِ العِيشةُ راضية لمحلِّها وحُصولِها في مُسْتحقِّيها، أو أنها لا حال أكملُ مِنْ حالِها. الثاني: أنّه على النّسبِ أي: ذاتِ رِضا نحو: لابِن وتامِر. الثالث: أنها ممّا جاء فيه فاعِل بمعنى مفْعول نحو: {مِن مّاءٍ دافِقٍ} [الطارق: 6] أي: مدْفوق، كما جاء مفْعول بمعنى فاعِل كقوله: {حِجابا مّسْتُورا} [الإِسراء: 45] أي: ساتِرا، وقد تقدّم ذلك.
{قُطُوفُها دانِيةٌ (23)}
والقُطوف: جمعُ قِطْفٍ، وهو فِعْل بمعنى مفْعول كالرِّعْي والذِّبْح وهو ما يجْتنيه الجاني مِن الثمار.
{كُلُوا واشْربُوا هنِيئا بِما أسْلفْتُمْ فِي الْأيّامِ الْخالِيةِ (24)}
قوله: {كُلُواْ}: أي: يُقال لهم: كُلوا: و{هنيئا} قد تقدّم في أولِ النساء. وجوّز الزمخشريُّ فيه هنا أن ينتصِب نعتا لمصدرٍ محذوفٍ أي: أكْلا هنيئا، وشُرْبا هنيئا، وأنْ ينتصِب على المصدرِ بعاملٍ مِنْ لفظِه مقدرٍ أي: هنِئْتُمْ بذلك هنيئا. و{بما أسْلفْتُم} الباءُ سببيةٌ، و(ما) مصدريةٌ أو اسميةٌ.
{ما أغْنى عنِّي مالِيهْ (28)}
قوله: {مآ أغنى}: يجوز أنْ يكون نفيا، وأنْ يكون استفهام توبيخٍ لنفسِه.
{خُذُوهُ فغُلُّوهُ (30)}
وقوله: {خُذُوهُ} كقوله: {كُلُواْ} [الحاقة: 24] في إضمار القول. وقوله: {ثُمّ الجحيم صلُّوهُ} تقديمُ المفعولِ يُفيد الاختصاص عند بعضهم؛ ولذلك قال الزمخشري: (ثم لا تصْلُوه إلاّ الجحيم). قال الشيخ: وليس ما قاله مذْهبا لسيبويه ولا لحُذّاقِ النحاة. قلت: قد تقدّمتْ هذه المسألةُ مُتْقنة، وأنّ كلام النحاةِ لا يأبى ما قاله.
{ثُمّ فِي سِلْسِلةٍ ذرْعُها سبْعُون ذِراعا فاسْلُكُوهُ (32)}
قوله: {ذرْعُها سبْعُون}: في محلِّ جر صفة ل {سِلْسِلةٍ} و{في سِلْسِلة} متعلِّقٌ ب {اسْلُكوه} والفاءُ لا تمْنع من ذلك. والذِّراعُ مؤنثٌ، ولذلك يُجْمعُ على أفْعُل وسقطتْ التاءُ مِنْ عددِه قال:
أرْمي عليها وهي فرْعٌ أجْمعُ ** وهي ثلاثُ أذْرُعٍ وإصبعُ

وزعم بعضُم أنّ في قوله: {في سِلْسلة} {فاسلكوه} قلبا، قال: لأنه نُقِل في التفسير أنّ السِّلسلة تدْخُل مِنْ فيه، وتخرجُ مِنْ دُبُرِه، فهي المسْلُوْكة فيه، لا هو مسْلوكٌ فيها. والظاهرُ أنه لا يُحتاج إلى ذلك لأنه رُوي أنّها لطولِها تُجْعلُ في عنقِه وتلتوي عليه، حتى تُحيط به مِنْ جميعِ جهاتِه، فهو المسْلوكُ فيها لإِحاطتِها به.
وقال الزمخشري: والمعنى في تقديم السِّلسلةِ على السّلْك مثلُه في تقديمِ الجحيمِ على التّصْليةِ أي: لا تسْلُكوه إلاّ في هذه السلسلةِ و(ثُمّ) للدلالةِ على التفاوُتِ لِما بين الغلِّ والتّصْليةِ بالجحيم، وما قبلها، وبين السّلْكِ في السِّلسلة لا على تراخي المُدّة. ونازعه الشيخُ في إفادةِ التقديم الاختصاص كعادتِه، وجوابُه ما تقدّم، ونازعه أيضا في أنّ (ثُمّ) للدلالة على تراخي الرتبة. وقال: يمكنُ التراخي الزماني: بأنْ يصْلى بعد أن يُسْلك، ويُسْلك بعد أنْ يُؤْخذ ويُغلّ بمهلةٍ بين هذه الأشياءِ. انتهى. وفيه نظرٌ: من حيث إن التوعُّد بتوالي العذابِ آكدُ وأقطعُ مِنْ التوعُّدِ بتفْريقه.
{ولا يحُضُّ على طعامِ الْمِسْكِينِ (34)}
وقله: {ولا يحُضُّ}: الحضُّ: البعْثُ على الفعلِ والحِرْصُ على وقوعِه، ومنه حروفُ التحضيض المُبوّبُ لها في النحوِ؛ لأنه يُطْلبُ بها وقوعُ الفعلِ وإيجادُه.
{فليْس لهُ الْيوْم هاهُنا حمِيمٌ (35)}
قوله: {فليْس لهُ اليوم هاهنا حمِيمٌ}: في خبرِ (ليس) وجهان، أحدهما: {له}، والثاني: {هاهنا}، وأيُّهما كان خبرا تعلّق به الآخرُ، أو كان حالا مِنْ {حميمٌ}. ولا يجوزُ أنْ يكون {اليوم} خبرا البتة لأنه زمانٌ، والمُخْبرُ عنه جثةٌ. ومنع المهدويُّ أنْ يكون {هاهنا} خبرا، ولم يذْكُرِ المانع. وقد ذكره القرطبي فقال: لأنه يصيرُ المعنى: ليس هاهنا طعامٌ إلاّ مِنْ غسْلين ولا يصِحُّ ذلك لأنّ ثمّ طعاما غيره. انتهى. وفي هذا نظرِ؛ لأنّا لا نُسلِّم أولا أنّ ثمّ طعاما غيره. فإنْ أرد قوله: {لّيْس لهُمْ طعامٌ إِلاّ مِن ضرِيعٍ} [الغاشية: 6] فهذا طعامٌ آخرُ غيرُ الغِسْلين. فالجوابُ: أنّ بعضهم ذهب إلى أن الغِسْلين هو الضّريعُ بعينِه فسمّاه في آيةٍ غِسْلينا، وفي أخرى ضريعا. ولئِنْ سلّمْنا أنهما طعامان فالحصْرُ باعتبارِ الآكلين. يعني أنّ هذا الآكل انحصر طعامُه في الغِسْلِيْنِ، فلا يُنافي أنْ يكون في النار طعامٌ آخر. وإذا قُلْنا: إنّ {له} الخبر، وإن {اليوم} و{هاهنا} متعلِّقان بما تعلّق هو به فلا إشكال. وكذاك إذا جعلْنا {هاهنا} هو الخبر، وعلّقْنا به الجارّ والظرف ولا يضُرُّ كونُ العاملِ معنويا للاتساع في الظروفِ وحروف الجرِّ.
{ولا طعامٌ إِلّا مِنْ غِسْلِينٍ (36)}
قوله: {إِلاّ مِنْ غِسْلِينٍ}: صفةٌ ل {طعامٌ} دخل الحصرُ على الصفةِ، كقولك: (ليس عندي رجلٌ إلاّ من بني تميمٍ) والمرادُ بالحميم الصديقُ، فعلى هذا الصفةُ مختصّةٌ بالطعامِ أي: ليس له صديق ينفعُه ولا طعامٌ إلاّ مِنْ كذا. وقيل: التقديرُ: ليس له حميمٌ إلاّ مِنْ غِسْلين ولا طعامٌ، قاله أبو البقاء، فجعل {مِنْ غِسْلين} صفة للحميم، كأنّه أراد به الشيء الذي يُحمُّ به البدنُ مِن صديدِ النارِ. ثم قال: وقيل: من الطعامِ والشرابِ؛ لأنّ الجميع يُطْعمُ بدليله قوله: {ومن لّمْ يطْعمْهُ} [البقرة: 249] فعلى هذا يكونُ {إِلاّ مِنْ غِسْلِينٍ} صفة ل {حميم} ول {طعام}، والمرادُ بالحميم ما يُشْربُ. والظاهرُ أنّ خبر {ليس} هو قوله: {مِنْ غِسْلين} إذا أُرِيد بالحميم ما يُشْربُ أي: ليس له شرابٌ ولا طعامٌ إلاّ غِسْلينا. أمّا إذا أُريد بالحميمِ الصديقُ فلا يتأتّى ذلك. وعلى هذا الذي ذكرْتُه فيُسْألُ عمّا يُعلّقُ به الجارُّ والظرفان؟ والجوابُ: أنها تتعلّقُ بما تعلّق به الخبرُ، أو يُجْعلُ {له} أو {هاهنا} حالا مِنْ {حميم}، ويتعلّقُ {اليوم} بما تعلّق به الحالُ. ولا يجوزُ أنْ يكون {اليوم} حالا مِنْ {حميم}، و{له} و{هاهنا} متعلِّقان بما تعلّق به الحالُ؛ لأنه ظرفُ زمانٍ، وصاحبُ الحالِ جثةٌ. وهذا الموضِعُ موضِعٌ حسنٌ مفيدٌ فتأمّلْه.
والغِسْلِين: فِعْلِيْن مِن الغُسالةِ، فنونُه وياؤُه زائدتان. قال أهلُ اللغة: هو ما يجْري من الجِراح إذا غُسِلتْ. وفي التفسير: هو صديدُ أهلِ النار. وقيل: شجرٌ يأكلونه.
{لا يأْكُلُهُ إِلّا الْخاطِئُون (37)}
قوله: {لاّ يأْكُلُهُ إِلاّ الخاطئون}: صفةٌ ل {غِسْلين}. والعامّةُ يهْمِزُون {الخاطِئُون} وهو اسمُ فاعلٍ مِنْ خطِئ يخْطأ، إذا فعل غير الصوابِ متعمِّدا، والمُخْطِئُ منْ يفعلُه غير متعمِّدٍ.
وقرأ الزُّهريُّ والعتكِيُّ وطلحة والحسن {الخاطِيُون} بياءٍ مضمومةٍ بدل الهمزة. وقد تقدّم مثلُه في {مُسْتهْزِيُون} أول هذا الموضوع. وقرأ نافعٌ في روايةٍ، وشيخُه وشيْبةُ بطاءٍ مضمومةٍ دون همزِ. وفيها وجهان، أحدُهما: أنّه كقراءة الجماعةِ، إلاّ أنه خُفِّف بالحذْفِ. والثاني: أنه اسمُ فاعلٍ مِن خطا يخطو إذا اتّبع خطواتِ غيرِه. فيكونُ مِنْ قوله: {لا تتّبِعُواْ خُطُواتِ الشيطان} [النور: 21] قاله الزمخشري، وقد مرّ في أول هذا الموضوع أنّ نافعا يقرأ {الصابِييْن} بدونِ همزٍ، وتقدّم ما نقل الناسُ فيها، وعن ابن عباس: ما الخاطُون كلُّنا نخْطُو. وروى عنه أبو الأسودِ الدؤليُّ: (ما الخاطُون، إنما هو الخاطئُون وما الصابُون، إنما هو الصابِئُون).
{فلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُون (38)}
وقوله: {فلا أُقْسِمُ}: قد تقدّم مثلُه في آخرِ الواقعة، وأشْبعْتُ القول ثمّة إلاّ أنّه قيل ههنا: إنّ (لا) نافيةٌ لفعلِ القسم، وكأنّه قيل: لا أحْتاجُ أنْ أُقْسِم على هذا؛ لأنه حقٌّ ظاهرٌ مُسْتغْنٍ عن القسمِ، ولو قيل به في الواقعة لكان حسنا.
{إِنّهُ لقول رسُولٍ كرِيمٍ (40)}
قوله: {إِنّهُ لقول}: هو جواب القسمِ.
{وما هُو بِقول شاعِرٍ قلِيلا ما تُؤْمِنُون (41)}
قوله: {وما هُو بِقول}: معطوف على الجوابِ فهو جواب. أقْسم على شيئين، أحدُهما مُثْبتٌ، والآخرُ منفيٌّ وهو من البلاغةِ الرائعة.
قوله: {قلِيلا مّا تُؤْمِنُون} {قلِيلا مّا تذكّرُون} انتصب {قليلا} في الموضعيْنِ نعتا لمصدرٍ أو زمانٍ محذوفٍ أي: إيمانا قليلا أو زمانا قليلا. والناصب تُؤْمِنون وتذكّرون، و(ما) مزيدةٌ للتوكيدِ. وقال ابنُ عطية: ونُصِب {قليلا} بفعلٍ مضمرٍ، يدُلُّ عليه {تُؤْمِنون}. وما يُحتمل أنْ تكون نافية فينْتفِي إيمانُهم البتة، ويُحتمل أنْ تكون مصدرية، ويتصف بالقلّةِ، فهو الإِيمانُ اللغويُّ؛ لأنّهم قد صدّقوا بأشياء يسيرةٍ، لا تُغْني عنهم شيئا؛ إذ كانوا يُصدِّقون بأنّ الخير والصِّلة والعفاف الذي يأمرُ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هو حقٌّ وصوابٌ. قال الشيخ: أمّا قوله: {قليلا} نُصِب بفعلٍ إلى آخره فلا يصِحُّ؛ لأن ذلك الفعل الدالّ عليه {تُؤْمنون}: إمّا أن تكون (ما) نافية أو مصدرية كما ذهب إليه. فإنْ كانتْ نافية فذلك الفعلُ المضمرُ الدالُّ عليه {تُؤْمِنون} المنفيُّ ب (ما) يكونُ منفيّا، فيكون التقدير: ما تُؤْمِنون قليلا ما تؤمنون، والفعلُ المنفيُّ ب (ما) لا يجوزُ حذْفُه ولا حذْفُ (ما)، لا يجوز: (زيدا ما أضْرِبُه) على تقدير: ما أضربُ زيدا ما أضْرِبُه. وإنْ كانتْ مصدرية كانتْ: إمّا في موضع رفعٍ ب {قليلا} على الفاعلية، أي: قليلا إيمانُكم، ويبقى {قليلا} لا يتقدّمه ما يعْتمد عليه حتى يعمل، ولا ناصب له، وإمّا في موضعِ رفعٍ على الابتداءِ فيكونُ مبتدأ لا خبر له، لأنّ ما قبله منصوبٌ.
قلت: لا يريدُ ابنُ عطية بدلالةِ {تُؤْمنون} على الفعلِ المحذوفِ الدلالة المذكورة في بابِ الاشتغالِ، حتى يكون العاملُ الظاهر مفسِّرا للعاملِ المضمرِ، بل يريدُ مجرّد الدلالةِ اللفظيةِ، فليس ما أورده الشيخُ عليه مِنْ تمثيلِه بقوله: (زيدا ما أضْرِبُه) أي: ما أضربُ زيدا ما أضربه بواردٍ.
وأمّا الردُّ الثاني فظاهرٌ. وقد تقدّم لابنِ عطية هذا القول في أول سورةِ الأعراف وتكلّمْتُ معه ثمّة. وقال الزمخشريُّ: والقلّةُ في معنى العدمِ أي: لا تُؤْمنون ولا تذكّرون البتة. قال الشيخ: ولا يُرادُ ب {قليلا} هنا النفيُ المحْض، كما زعم، وذلك لا يكونُ إلاّ في (أقلّ) نحو: (أقلُّ رجلٍ يقول ذلك إلاّ زيدٌ) وفي (قلّ) نحو: (قلّ رجلٌ يقول ذلك إلاّ زيدٌ) وقد يُستعمل في قليل وقليلة، أمّا إذا كانا مرفوعيْنِ، نحوُ ما جوّزوا في قوله:
............................. ** قليلٌ بها الأصواتُ إلاّ بُغامُها

أمّا إذا كان منصوبا نحو: (قليلا ضربْتُ) أو (قليلا ما ضربْتُ) على أنْ تكون (ما) مصدرية فإنّ ذلك لا يجوزُ؛ لأنّه في (قليلا ضربْتُ) منصوبٌ ب (ضربْتُ). ولم تستعمل العربُ (قليلا) إذا انتصب بالفعلِ نفيا، بل مقابلا لكثير، وأمّا في (قليلا ما ضربْتُ) على أنْ تكون (ما) مصدرية فتحتاج إلى رفع (قليل) لأنّ (ما) المصدرية في موضعِ رفع على الابتداء. انتهى ما ردّ به، وهو مجردُ دعْوى.
وقرأ ابن كثير وابن عامر بخلافٍ عن ابن ذكوان بالغيْبة في {يؤمنون} و{يذّكّرون} حمْلا على قوله: {الخاطِئون}، والباقون بالخطاب حمْلا على {بما تُبْصِرون وما لا تُبْصرون}. وأُبيٌّ {تتذكّرون} بتاءين.
{تنْزِيلٌ مِنْ ربِّ الْعالمِين (43)}
قوله: {تنزِيلٌ}: هذه قراءة العامّة، أعني الرفع على إضمارِ مبتدأ، أي: هو تنزيلٌ، وتقدّم مثلُه. وأبو السّمّال {تنْزيلا} بالنصبِ على إضمارِ فعل أي: نزّل تنزيلا.
{ولوْ تقول عليْنا بعْض الْأقاوِيلِ (44)}
قوله: {ولوْ تقول}: هذه قراءة العامّةِ. تفعّل من القول مبنيّا للفاعلِ. وقال الزمخشري: التقول افعتالُ القول؛ لأن فيه تكلُّفا من المُفْتعِل. وقرأ بعضُهم {تُقول} مبنيا للمفعول. فإن كان هذا القارئُ رفع {بعضُ الأقاويل} فذاك، وإلاّ فالقائمُ مقام الفاعلِ الجارُّ، وهذا عند منْ يرى قيام غيرِ المفعول به مع وجودِه. وقرأ ذكوان وابنه محمد {يقول} مضارعُ (قال). والأقاويلُ: جمعُ أقوالٍ، وأقوالٌ جمع قول، فهو نظير (أباييت) جمعُ أبْيات جمعُ بيْت. وقال الزمخشري: وسمّى الأقوال المتقولة أقاويل تصغيرا لها وتحقيرا، كقولك: أعاجيب، وأضاحيك، كأنها جمع أُفْعُولة من القول.
{لأخذْنا مِنْهُ بِالْيمِينِ (45)}
قوله: {باليمين}: يجوزُ أنْ تكون الباءُ على أصلِها غير مزيدةٍ والمعنى: لأخذْناه بقوةٍ مِنّا، فالباءُ حاليةٌ، والحالُ من الفاعلِ، وتكون في حكم الزائدةِ. واليمينُ هنا مجازٌ عن القوةِ والغلبة، وأنْ تكون مزيدة، والمعنى: لأخذْنا منه يمينه، والمرادُ باليمين الجارِحةُ، كما يُفْعلُ بالمقتول صبْرا يُؤْخذُ بيميِنه، ويُضرب بالسيفِ في جيده مواجهة، وهو أشدُّ عليه. والوتينُ نِياطُ القلبِ، إذا انقطع مات صاحبُه. وقال الكلبي: هو عِرْقٌ بين العِلْباء والحُلْقوم، وهما عِلْباوان، بينهما العِرْقُ، والعِلْباءُ: عصبُ العُنُق. وقيل: عِرْقٌ غليظٌ تصادِفُه شفْرة الناحِرِ. قال الشمّاخ:
إذا بلّغْتِني وحملْتِ رحْلِي ** عرابة فاشْرقي بدمِ الوتينِ

{فما مِنْكُمْ مِنْ أحدٍ عنْهُ حاجِزِين (47)}
قوله: {حاجِزِين}: فيه وجهان، أحدُهما: أنه نعتٌ ل {أحد} على اللفظِ، وإنما جُمع على المعنى؛ لأنّ (أحدا) يعُمُّ في سياقِ النفي كسائرِ النكراتِ الواقعة في سياقِ النفي، قاله الزمخشريُّ والحوفيُّ، وعلى هذا فيكون {منكم} خبرا للمبتدأ، والمبتدأ {مِنْ أحدٍ} زِيْدتْ فيه (من) لوجود شرطيْها. وضعّفه الشيخُ: بأنّ النفي يتسلّطُ على كيْنونتِه منكم، والمعنى إنما هو على نفي الحجْزِ عمّا يُراد به. والثاني: أنْ يكون خبرا ل (ما) الحجازية و{مِنْ أحد} اسمُها، وإنما جُمع الخبرُ لِما تقدّم، و{منكم} على هذا حالٌ؛ لأنه في الأصلِ صفةٌ ل {أحد} أو يتعلّقُ ب {حاجِزين}. ولا يضُرُّ ذلك؛ لكونِ معمولِ الخبرِ جارّا، ولو كان مفعولا صريحا لامتنع. لا يجوز: (ما طعامك زيدٌ آكلا) أو يتعلّقُ بمحذوفٍ على سبيل البيان. و(عنه) متعلِّقٌ ب (حاجزين) على القوليْن، والضميرُ للمتقول أو للقتْلِ المدلولِ عليه بقوله: (لأخذْنا)، (لقطعْنا).
{وإِنّهُ لتذْكِرةٌ لِلْمُتّقِين (48)}
قوله: {وإِنّهُ لتذْكِرةٌ}: أي: القرآن، وكذلك {إنه لحسْرة}. وقيل: إنّ التكذيب به، لدلالةِ {مكذِّبين} على المصدرِ دلالة السّفيه عليه في قوله:
إذا نُهِي السّفيهُ جرى إليه ** وحالف والسّفيهُ إلى خِلافِ

أي إلى السّفهِ. اهـ.